{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)}.التفسير:مناسبة هذه السورة لسورة الكهف قبلها، أنها اشتملت على آيات وخوارق، على نحو ما اشتملت عليه سورة الكهف، التي ضمّت على هذه الآيات العجيبة.. في أصحاب الكهف، وفى صاحب الجنّتين، وفى موسى، والعبد الصالح.. ثم في ذى القرنين، وما جرى على يديه!.وفى سورة مريم هذه، تعرض السورة آيات من قدرة اللّه، نجدها في استجابته سبحانه لدعوة عبد من عباده هو زكريّا عليه السلام، إذ رزقه الولد على الكبر، وعلى ما كان من امرأته من عقم.. كما نجد تلك الآية العجيبة في ميلاد المسيح- عليه السلام- من غير أب!كما نجد المناسبة أيضا: بين قوله تعالى: في آخر سورة الكهف: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً} وبين قوله تعالى في مطلع سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ...}.إلى قوله تعالى: {ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}.فعيسى عليه السلام، ليس إلا كلمة من كلمات اللّه التي لا تنفد.. كما يقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ} [171: النساء].قوله تعالى: {كهيعص}.بهذه الأحرف الخمسة تبدأ السورة، وهى تكاد تكون فريدة في هذا البدء، بذلك العدد الكثير من الحروف، لا يشاركها في هذا إلا سورة الشورى، فقد بدأت مثلها بخمسة أحرف مرتبة على هذا النحو: {حم عسق}.وقد انفردت كل منهما بأربعة أحرف، واشتركتا معا في حرف واحد هو العين.ولا نستطيع أن نعل لهذه الكثرة من الحروف، فذلك وجه من وجوه إعجاز القرآن الذي لا يزال سرا محجبا لم ينكشف لنا. وإن يكن قد انكشف للراسخين في العلم، فجعلوه سرا، لم يؤذن لهم البوح به! قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا}.{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} {ذكر} خبر لمبتدأ محذوف تقديره، هذا، و{عبده} مفعول به للمصدر {ذكر} و{زكريا} بدل من {عبده}.ومعنى {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} أي: هذا خبر رحمة ربك، وألطافه بعبده زكريا.وقوله تعالى: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا} بيان للظرف الذي كانت فيه مهابّ أنسام هذه الرحمة... وإذ كانت رحمة اللّه لا تنقطع عن عباده المؤمنين وخاصة من اصطفاهم لرسالته، فإن ذكر الرحمة، والحديث عنها في هذا الظرف، هو لبيان مزيد هذه الرحمة ومجيئها في صورة، تكاد- لما حملت من ألطاف- تكون رحمة خاصة تستحق الذكر والتنويه.والنداء هنا معناه: الدعاء، كما ذكر ذلك في قوله تعالى: {هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [38: آل عمران].والنداء الخفي: هو الدعاء في سرّ، دون جهر ومعالنة.. إذ كان ذلك فيما بينه وبين ربه.. بعيدا عن أعين الناس، وأسماع الناس.وقد يكون هذا الدعاء من خواطر النفس، وأمانىّ الفؤاد. ومع ذلك فإن اللّه سبحانه وتعالى، قد سمعه، وعلمه، وجعله قولا مصوّرا في كلمات، منطوقا باللسان.. وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى: {قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}.هذا هو الدعاء الذي دعا به زكريا ربه.وقد بدأه أولا بهذا التذلل والتشكّى إلى اللّه.. وفى هذا الموقف، يقف العبد من ربه الموقف الذي ينبغى أن يكونه.. فهو عبد ضعيف، فقير، ذليل، بين يدى السيد القوى العزيز.. من بيده ملكوت السموات والأرض.وهكذا ينبغى أن يكون الأدب من العبد بين يدى ربه.. وبهذا يكون في معرض من أن يؤذن له بالقرب من ربه، وأن يلقى الرضا والقبول.{إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}.ووهن العظم، ضعفه ودقته.. وإذا ضعف عظم الإنسان ووهى، أو شك أن ينهار بنيانه، وأن تنقض أركانه.. فهيكل الإنسان هو هذا العظم، الذي يقوم به شكله، وتتحدد به هيئته.وقوله: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أبلغ في الإبانة عن الضعف، وذهاب القوة، من قوله: {وهن عظمى}.إذ أن القول الأول يشير إلى أنه لا عظم معه، بل لقد ذهب هذا العظم، وما بقي منه فإنه لا غناء فيه.. أما القول الآخر فإنه يحدّث عن أن معه عظما، وأنه لا زال يملكه ويحرص عليه.وقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} أبلغ كذلك في الإبانة عن استيلاء الشيب على الرأس كلّه، من قوله: {واشتعل رأسى شيبا}.فإن في النظم الذي جاء عليه القرآن دلالة على أن هذا الرأس كائن غريب يكاد ينكره صاحبه، لأنه أصبح بهذا الشيب على صورة غير تلك الصورة التي عهده صاحبه عليه منذ عرف أن له رأسا.. فهذا الرأس كان أسود الشعر، أو أصفره.. ثم ها هو ذا يراه وقد استحال إلى بياض معتم، كرماد تخلّف من النّار!- وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} استحضار لما للّه سبحانه وتعالى من سوابق الإحسان، وسوابغ الفضل على هذا العبد.. فما خذله ربّه أبدا، في أي موقف لجأ إليه فيه، وما ردّ ربه يده فارغة في أىّ حال مدّ إليه يده فيها.. وهو في هذه المرّة على رجاء من أن يستجاب له في يومه، كما استجيب له في أمسه!- وقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}.هنا- وبعد أن أدّى زكريّا ما يجب من الولاء لربّه، واللّجأ إلى فضله وإحسانه، وهو ما ينبغى أن يؤديه العبد لسيده ومالك أمره- هنا يبدأ زكريا يعرض حاجته، ويكشف عن الحال الداعية إلى هذا الطلب، الذي مدّ به يده إلى ربّه.إنّه لا ولد له، والولد رغيبة تهفو إليها نفوس الآباء والأمهات، لا فرق في هذا بين إنسان وإنسان، حيث يجد المرء في الولد امتدادا لحياته، وروحا لروحه، وأنسا لقلبه..!وقد كان زكريا- شأنه شأن كل رجل- يرجو أن يكون له ولد من صلبه، يتلقّى عنه رسالته في الحياة من بعده، وهاهوذا قد بلغ من الكبر عتيّا، ولم يرزق الولد، وهو يرى من أهله وقرابته، من ينتظر موته ليرث مخلّفاته، وكانوا شرار بنى إسرائيل.. فحزن لهذا، واشتدت رغبته في الولد، ليقطع به على هؤلاء الطامعين فيه، والمتعجلين موته- آمالهم.. ولكن أنّي يكون له ولد، وقد بلغ من الكبر ما بلغ، إلى ما عليه امرأته من عقم؟ولم يكن بين يدى زكريا إلّا هذه الخواطر، يردّدها في صدره، ويتعزّى بها بينه وبين نفسه، ويدعو ربّه أن يجعل من هذه الخواطر، واقعا في يده.وفى قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ما يسأل عنه.. وهو: كيف يطلب أن يكون له ولد يرثه، والأنبياء لا تورث.. كما في الحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث.. ما تركناه صدقة»؟والجواب على هذا، هو أن الميراث، هنا ليس ميراث مال، ولا متاع، وإنما هو ميراث خلافة، يقوم فيها الخلف مقام السّلف.. حيث يكون الولد وارثا لاسم أبيه، وأصلا سلسلة النسب الممتدة من الأجداد، إلى الآباء، إلى الأبناء.